الرئيسية / مقالات تعليمية / كيف تغير الأفكار بنية الدماغ المادية ؟ وأثر ذلك في الاستذكار

كيف تغير الأفكار بنية الدماغ المادية ؟ وأثر ذلك في الاستذكار




كيف تغير الأفكار بنية الدماغ المادية ؟ وأثر ذلك في الاستذكار

تعليم جديد، أفكار تعليمية جديدة، تعليم مختلف: كيف تغير الأفكار بنية الدماغ المادية ؟ وأثر ذلك في الاستذكار التعليم في وزارة التربية والتعليم العالي

#كيف #تغير #الأفكار #بنية #الدماغ #المادية #وأثر #ذلك #في #الاستذكار

نظرية الحمل المعرفي العبء المعرفي التفكير التصميمي

“إن القدرة على التخيل أهم بكثير من المعرفة” ألبرت أينشتاين، عالم فيزياء

 علاقة تغير البنية المادية للدماغ بتعلم المهارات

أظهرت تجارب ألفارو باسكوال- ليون رئيس مركز “بيث ديكونس الطبي” -وهو أيضا عضو كلية طب هارفارد- أنه يمكننا أن نغير من التركيب البنيوي للدماغ عن طريق التخيل فقط.

باسكوال أيضا هو أحد الرواد العظام في استخدام ” التنبيه المغناطيسي عبر القحفي التكراري العالي التردد ” أو RTMS ، الذي يمكن من خلاله أن تنشط العصبونات إلى حد كبير بحيث إنها تثير بعضها بعضا وتستمر في الاتقاد حتى بعد توقف التنبيه المغناطيسي، مما يؤدي إلى تشغيل منطقة دماغية لفترة، ويمكن استخدامه علاجيا. وعلى سبيل المثال، تكون القشرة قبل الجبهية- في بعض حالات الاكتئاب- في وضع إيقاف جزئي ووظيفتها دون المستوى.

أظهر باسكوال أن التنبيه المغناطيسي فعال في معالجة مرضى كهؤلاء مصابين باكتئاب وخيم بحيث إن 70 بالمائة من هؤلاء- الذين عجزوا عن التحسن بالأساليب التقليدية-  تحسنوا باستخدام تلك التقنية، وكانت التأثيرات الجانبية أقل من الأدوية.

في أوائل التسعينيات حين كان باسكوال لا يزال زميلا شابًا في المعهد الوطني للاضطرابات العصبية والسكتات الدماغية، قام بإجراء تجارب وصفت بالعظيمة لتألقها، حيث أدت إلى ابتكار طريقة مثالية لرسم خريطة الدماغ، وجعلت تجاربه في التخيل ممكنة، كما علمتنا كيف نتعلم المهارات.

نفذ باسكوال تجاربه على أناس مكفوفين يتعلمون أن يقرأوا بطريقة “برايل”، ودرس الخاضعون للتجربة طريقة برايل في صف دراسي لمدة ساعتين يوميا يتبعها ساعة للوظيفة البيتية لمدة خمس مرات في الأسبوع على مدى سنة كاملة، وكانت نتائج هذه التجارب من بين أولى النتائج التي أكدت أنه عندما يتعلم البشر مهارة جديدة فإن تغيرا يحدث في بنية الدماغ.

عندما قاس باسكوال خريطة القشرة الحركية وجد أن خرائط “أصابع قراءة برايل” للخاضعين للتجربة كانت أكبر من خرائط سباباتهم الأخرى وأكبر أيضا من خرائط السبابة للقارئين بغير طريقة برايل. ووجد أيضا أن الخرائط الحركية زادت في الحجم عندما زاد الخاضعون للتجربة عدد الكلمات التي يستطيعون قراءتها في الدقيقة الواحدة، ولكن اكتشافه الأكثر ادهاشًا وكانت له نتائج مهمة فيما يتعلق بتعلم أي مهارة هو الطريقة التي حدث بها التغير خلال أيام الأسبوع.

رسم باسكوال خرائط الدماغ للخاضعين للتجربة أيام الجمعة (في نهاية أسبوع التدريب)، وأيام الاثنين (بعد أن يكونوا قد استراحوا في عطلة نهاية الأسبوع)، فوجد باسكوال أن تغيرات خرائط الدماغ في أيام الجمعة كانت مختلفة عن مثيلاتها في أيام الاثنين، فمنذ بداية الدراسة أظهرت خرائط الجمعة توسعًا هائلًا وسريعًا جداً، ولكن هذه الخرائط عادت في يوم الاثنين إلى حجمها القاعدي.

استمرت خرائط الجمعة في النمو لستة أشهر عائدة بعناد إلى حجمها القاعدي كل اثنين، وبعد ستة أشهر تقريبا كانت خرائط الجمعة لا تزال تزداد في الحجم، ولكن ليس بنفس القدر الذي ازدادت به في الأشهر الستة الأولى. أما خرائط الاثنين فقد أظهرت نمطا معاكسا، فهي لم تبدأ في التغير إلا بعد ستة أشهر من التدريب، ومن ثم زادت ببطء واستقرت بعد عشرة أشهر من التدريب.

أما السرعة التي استطاع الخاضعون للتجربة أن يقرأوا بها بطريقة برايل فقد كانت خرائط الاثنين أسرع من غيرها، ورغم أن التغيرات في خرائط الاثنين لم تكن هائلة كما هي في خرائط الجمعة، إلا أنها كانت أكثر استقرارا، وبعد عشرة أشهر من التدريب، أخذ الطلاب إجازة لمدة شهرين، ثم أعيد رسم خرائط أدمغتهم بعد عودتهم وتبين انها لم تتغير منذ آخر رسم لها، وهكذا قاد التدريب اليومي إلى تغيرات هائلة قصيرة الأمد خلال أسبوع التدريب، ولكن خلال عطلات نهاية الأسبوع وإجازة الشهرين شوهدت تغيرات دائمة في خرائط الاثنين.

إن فهم تأثير “السلحفاة والأرنب” (النتائج المختلفة يومي الاثنين والجمعة) يمكن أن يساعدنا في فهم ما يجب علينا فعله كي نتقن فعليا مهارات جديدة، فمن السهل علينا نسبيا أن نتحسن بعد فترة تدريب قصيرة، كما الحال عندما نحشو أدمغتنا بالمعلومات استعدادا لامتحان، لأننا على الأرجح نقوّي الاتصالات المشبكية القائمة، ولكننا ننسى سريعا ما حشونا به أدمغتنا لأن هذه الاتصالات العصبونية قد اُكتسبت بسرعة وتضيع بسرعة، ويتم عكسها على الفور.

إن المحافظة على التحسن وجعل المهارة دائمة يتطلبان العمل البطيء المنتظم الذي يشكل – على الأرجح- اتصالات جديدة، فإذا كان المتعلم يظن انه لا يحرز تقدما تراكميا، أو يشعر أن عقله مثل “منخل”، فهو بحاجة إلى أن يواصل ممارسة المهارة إلى أن يحصل على ” تأُثير الاثنين”، الذي استغرق حدوثه في قراءة برايل ستة أشهر.

إن اختلاف خرائط الجمعة والاثنين قد يفسر قدرة بعض الناس – السلاحف-، الذين يبدون بطيئين في استيعاب مهارة على تعلمها بشكل أفضل من أصدقائهم – الأرانب- أو الدراسين السريعين، الذين لا يحتفظون بالضرورة بما تعلموه بدون التدريب المعزز الذي يرسخ التعلم.

هل التدريب العقلي والتخيل يؤديان واقعيا إلى تغيرات فيزيائية؟

كانت تفاصيل تجربة التخيل بسيطة حيث علم باسكوال مجموعتين من الناس لم يدرسوا العزف على البيانو أبدا تتابعا من النغمات مبينًا لهم الأصابع اللازم تحريكها متيحا لهم أن يسمعوا النغمات أثناء عزفها، ثم قام أعضاء إحدى المجموعتين – وهي مجموعة التدريب العقلي- بالجلوس أمام لوحة المفاتيح لبيانو كهربائي لمدة ساعتين في اليوم على مدى خمسة أيام، وتخيلوا أنهم يعزفون التتابع ويسمعونه يُعزف، أما المجموعة الثانية -وهي مجموعة التدريب الفيزيائي-، فقد عزفت الموسيقى فعليا لساعتين في اليوم على مدى خمسة أيام.

تم رسم خريطة الدماغ لكلتا المجموعتين قبل التجربة، وفي كل يوم خلالها، ووجد باسكوال أن كلتا المجموعتين تعلمت عزف التتابع وأظهرت كلتاهما تغيرات مماثلة في خريطة الدماغ. وعلى نحو لافت، أحدث التدريب العقلي نفس التغيرات الفيزيائية في الجهاز الحركي التي أحدثها التدريب الفيزيائي الفعلي، وفي نهاية اليوم الخامس كانت التغيرات في الإشارات الحركية إلى العضلات متماثلة في كلتا المجموعتين، وكانت دقة العازفين المتخيلين مماثلة للدقة التي عزف بها العازفون الفعليون في اليوم الثالث.

وعلى الرغم من أن التحسن في مجموعة التدريب العقلي أقل عن نظيره في مجموعة التدريب الفعلي، إلا أنه عندما حصلت مجموعة التدريب العقلي على تدريب فيزيائي لمدة ساعتين تحسّن أداؤها الإجمالي ليصل إلى نفس مستوى الأداء الذي أحرزه أصحاب مجموعة التدريب الفعلي.

من الواضح أن التدريب العقلي هو طريقة فعالة يحضّر بها المرء نفسه لتعلم مهارة فيزيائية بحيث لا يحتاج إلا إلى حد أدنى من التدريب الفيزيائي.

نحن جميعا نقوم بما يدعوه العلماء “التدريب العقلي” عندما نحفظ الإجابات عن ظهر قلب استعدادا للامتحان، أو نحفظ دورنا في مسرحية أو نتدرب على أي نوع من الأداء أو العروض، ولكن لأن القليل منا يفعل ذلك بمنهجية منتظمة فنحن لا نقدّر فاعليته حق قدرها.

في إحدى الدراسات أتوا ببعض لاعبي كرة السلة وتم تحديد نسبة التسديد الناجح لكل لاعب، ثم تم تقسيم اللاعبين إلى ثلاث مجموعات بطريقة عشوائية، المجموعة الأولى جعلوها تتدرب على الرميات الحرة كل يوم لعدة ساعات، المجموعة الثانية لم تتدرب أبدا، أما المجموعة الثالثة فطُلب منهم أن يتخيلوا أنهم يتدربون على الرميات الحرة بخيالهم فقط. وبعد الانتهاء من التمارين وجدوا أن المجموعة الأولى تحسن أداؤها أما المجموعة الثانية فلم يكن لديها أي تحسن كما هو متوقع، ولكن غير المتوقع أن مستوى المجموعة الثالثة تحسّن تقريبا بنفس نسبة المجموعة الأولى.

وهناك مثال آخر مشهور، يتعلق الأمر بقصة الطيار الحربي جورج هول الذي وقع أسيرا في حرب فيتنام، ووُضع في صندوق مظلم لمدة سبعة أعوام وفي كل يوم كان الطيار يتخيل نفسه يلعب الجولف ليمضي الوقت ولكيلا يفقد عقله في هذا السجن المظلم، وبعد إنقاذه من الأسر بأسبوع واحد فقط، شارك في مسابقة عالمية للجولف وفاز بمركز متقدم جدا.

كذلك أحد أكثر أشكال التدريب العقلي تقدما هو” الشطرنج العقلي” الذي يُلعب بدون رقعة أو بيادق حيث يتخيل اللاعبون الرقعة ويتابعون مواقع البيادق. وقد استخدم أناتولي شارنسكي ناشط حقوق الإنسان السوفيتي الشطرنج العقلي لينجو في السجن حيث قضى أناتولي – وهو اختصاصي كمبيوتر اُتهم بالتجسس لصالح الولايات المتحدة 1977- تسع سنوات في السجن، منها أربعمائة يوم في الحبس الانفرادي في زنزانة مظلمة قاسية البرودة، حيث غالباً ما ينهار فيها السجناء عقليا لأن الدماغ يحتاج إلى تحفيز خارجي ليحافظ على خرائطه. وخلال هذه الفترة لعب شارانسكي الشطرنج العقلي لشهور وهو ما ساعده على الأرجح في حفظ دماغه من التدهور، وقد لعب شارانسكي الأبيض والأسود حافظا اللعبة في عقله من منظورين متعاكسين وهو ما يُعتبر تحديا استثنائيا للدماغ.

درس العلماء أيضا حالة الشاب الألماني روديغر غام ذو الذكاء الطبيعي الذي حوّل نفسه إلى آلة حاسبة بشرية، رغم أنه لم يولد بقدرة رياضية استثنائية إلا أنه استطاع أن يحل مسائل معقدة في خمس ثوان فقط. وقد بدأ غام في عمر العشرين بالتدرب على الحساب أربع ساعات يوميا، وعندما بلغ السادسة والعشرين أصبح نابغة في الحساب. وعندما قام الباحثون بتصوير مقطعي لدماغه أثناء قيامه بالحساب، وجدوا أنه كان قادرا على تجنيد خمس مناطق دماغية أخرى للحساب مقارنة بالناس العاديين، وقد بيّن عالم السيكولوجيا أندرس إريكسون أن الناس أمثال غام يعتمدون على الذاكرة طويلة المدى لتساعدهم في حل المسائل الرياضية، بينما يعتمد غيرهم على الذاكرة قصيرة الأمد..

لا يُخزّن الخبراء الإجابات، ولكنهم يخزنون الحقائق الأساسية والاستراتيجيات التي تساعدهم في الحصول على الإجابات ويكون لديهم وصول سريع إليها، كما لو كانت مخزنة في الذاكرة قصيرة الأمد. وقد وجد إريكسون أن بلوغ مثل هذه المرتبة – مرتبة الخبير- في معظم الحقول يتطلب عادة عشر سنوات تقريبا من الجهد المركز.

أحد الأسباب وراء قدرتنا على تغيير أدمغتنا بمجرد التخيل هو أن تخيل فعل أو القيام به من وجهة نظر علم الأعصاب ليسا أمرين مختلفين بقدر ما يبدوان. فعندما يُغمض الناس أعينهم ويتخيلون شيئا بسيطا مثل الحرف “أ”، فإن القشرة البصرية الأولية تتقد، تماما كما ستفعل إذا كان نفس هؤلاء الناس ينظرون فعليا للحرف “أ”. كذلك يُظهر مسح الدماغ أنه خلال الفعل وخلال التخيل يتم تنشيط العديد من أجزاء الدماغ نفسها، ولهذا يمكن للتخيل أن يُحسّن الدماغ.

لقد رأينا أن تخيل فعل يُشغّل نفس البرامج الحركية والحسية المشتركة في فعله، لقد تصورنا حياتنا التخيلية لفترة طويلة بنوع من الرهبة المقدسة: نبيلة، وصافية، ولامادية، أثيرية، انتُزعت من دماغنا الماديّ، والآن لا يمكننا أن نكون متأكدين تماما بشأن أين يجب أن نرسم الخط الفاصل بينهما.

إن كل شيء يتخيله عقلك “اللامادي” يترك آثارا مادية، فكل فكرة تغّير الحالة الفيزيائية لمشابك دماغك عند مستوى مجهري، ففي كل مرة تتخيل أنك تُحرك أصابعك عبر المفاتيح لتعزف على البيانو، فأنت تغير الحوالق في دماغك الحي.

ليست هذه التجارب مبهجة وآسرة فحسب، ولكنها تمحو قرونا من الإرباك الناتج عن عمل الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، الذي جادل بأن الدماغ والعقل مؤلفان من مادتين مختلفتين ومحكومان بقوانين مختلفة. فبتصوره دماغا ميكانيكيا، جرّد ديكارت الدماغ من أي حياة وأبطأ قبول العلماء للدونة الدماغ أكثر مما فعل أي مفكر آخر، فوفقا لديكارت فإن أية لدون – أي قدرة على تغيير ما لدينا- موجودة في العقل بأفكاره المتغيرة وليس في الدماغ.

لكن بإمكاننا أن نرى الآن أن “أفكارنا” “اللامادية” لديها أيضا توقيع فيزيائي، ولا يمكننا أن نكون متأكدين تماما أن التفكير لن يُفسر يوما بمصطلحات فيزيائية، وفي حين أنه لايزال علينا أن نفهم كيف تغير الأفكار بنية الدماغ، إلا أنه بات واضحا الآن أنها تفعل ذلك.

وأخيرا صدق من قال: “راقب أفكارك لأنها ستصبح أفعالا، وراقب أفعالك لأنها ستصبح عاداتك، وراقب عاداتك لأنها ستصبح طباعك، وراقب طباعك لأنها ستحدد مصيرك

كاتب المقال

عبد الفتاح الطنطاوي

معلم، مهتم بقضايا التربية والتعليم، محب للقراءة في مجالات مختلفة.