الرئيسية / طب وصحة / المقعد الحجري عندما أشعر بقسوة القلب تري

المقعد الحجري عندما أشعر بقسوة القلب تري



….المقعد الحجري…..
………
عندما أشعر بقسوة القلب تريد أن تعود لي….وعندما تحتاج عيوني للبكاء. ..ونفسي للسَّكينة ….انسلٌّ من عيادتي ماشيا على قدمَيّ……ولا أعبر إلا شارعين حتى أصل الى….محطة القطارات…. أجلس على مقعد حجري قديم….
أنا لست مسافراً….وليس في يدي حقيبة وليس هناك مسافرون ….فالمحطة مهجورة منذ زمن….ولا يجثم بها إلا قطار واحد متوقف على السكة الحديدية أمام الرصيف بلا حراك…
أنا أجلس على المقعد الحجري ….بوقار … ثم أتقدم من القطار واصعد درجاته واجلس في المقعد قرب النافذة وأنظر الى الرصيف والى ذلك المقعد الحجري…. الذي كنت أجلس عليه قبل قليل…ثم أبدأ ألَوّحُ بيدي…وأُجهش بالبكاء….!!!.
هذا المكان أشعر كانه صندوقٌ أسْوَدُ فيه أسرار الفقراء…أما الأغنياء فيحكون أسرارهم في المطارات البعيدة ….
أما عن سبب بكائي في هذا المكان ……فأنا خَجِلٌ أن أقوله لكم ….ولكن لا بأس ….سأقوله…
…….
أنا عندما كنت يافعاً كنت فظّاً غليظ القلب مغرورا…….فشَظَفُ العيش قد يجعل المرء قاسياً… وعنيفاً… وربما مُجرماً …!!!
ويقولون إن معدّلات الجريمة في مدينة واحدة أكبر في الأحياء الفقيرة….منها في الاحياء المرفّهة الثرية !!!
على كل حال….أنا قلت لكم أني كنت
في صغري أرعنَ مُتعاليا سريع الغضب كأني بركانٌ ثائر…. وكنت أرتكب في كل يوم ما يشبه الجريمة…والحقيقة انها جريمة !!! وجريمة نكراء أيضا !!! …فقد كنت اكرهُ تلك المخلوقةَ الصغيرة التي يدعونها أختي !!!
فقد كانت شديدة الالتصاق بي…تتدخل في شؤوني الصغيرة والكبيرة…تحب ان تعرف ماذا أحب وماذا لا أحب…هل انا جائع.. .هل أنا عطشان….ماذا أقرأ …ماذا أكتب ….هل أريد شيئا…هل ينقصني شيء ….
نعم أيتها القصيرة ينقصني ان تدَعيني وشأني..هكذا كنت أخاطبها…( هي كانت صغيرة وليست قصيرة…)
دعيني وشأني….يا جُرْزة البقدونس…( لم تكن جرزة بقدونس…كانت عود نعنع في ماء عذب )
ولكن…..
آه كم أنا نادم الآن…. كم انا خجل من نفسي
آه لو تعود تلك الأيام…آه…
لو تعود تلك الأيام لتعلمت كيف اأحبها ولا أظلمها ……ولا أقسو عليها….أختي
……
هي تصغرني بعامين فقط …وكانت لا تدّخر أي جهد لإرضائي…فهي تقدم لي الطعام وقطع الحلوى والسكاكر التي كانت بالكاد تحصل عليها…..أما أنا فكنت لا أدّخر جهدا لزجرها وإسكاتها والسخرية منها !!!!
وكم ليلة كانت تبيت فيها دامعة العين…كسيرة القلب من كلماتي القاسية …..وتصرفاتي المقيتة..!!!
والغريب أنني كلما ازددت قسوةً عليها وغلظة وجفاءً كانت هي تزداد حناناً ومحبة…وتقرّباً مني…
ما قصة الشقيقات لماذا هن هكذا.؟ لماذا هن هكذا طيّبات ورقيقات وجميلات…؟!!
ولماذا أختي هي أطيبهنّ وأرقّهنّ وأجملهنّ…؟!!
هل يكون سبب ذلك أن أمّي قد فارقت الحياة منذ زمن بعيد….؟!!
أنا لا زلت أذكر ان أمي هي التي كانت توصيني بها وتقول لي…
دير بالك على أختك …دير بالك على أختك….أختك انت ستكون مسؤولا عنها….أختك يا ابني…أختك..!!!.
ولكن الذي كان يحصل غير ذلك فأنا كنت أشعر بالضيق من وجودها في حياتي….. وتدخلها في شؤوني كأني ولد صغير !!!
وزاد الطين بلة انني عندما صرت في الثانوية بدأت أشعر بالرجولة الشرقية الكاذبة فكنت أحظر عليها الخروج والدخول إلا برفقتي….
ممنوع كذا….ممكنوع كذا…غير مسموح كذا…!!! غير مسموح كذا …
ورغم كل ذلك كانت أختي تهتم بطعامي وثيابي وتقدم لي كأسات الشاي والبسكوت وحتى كاسات الماء وأنا مُنكبٌّ على دراستي فامتحانات الثانوية على الابواب …..
ثم جاء ذلك اليوم الجميل …يوم نجاحي في الثانوية….ولم يكن أحد أسعدَ من أختي بنجاحي وتفوّقي
فأنا بأمّ عيني رأيت دموعها تنهمر على خدّيها…..هذا عدا الحلوى التي صنعتْها قبل يوم من ذلك ووزعتها في يوم النتيجة على الجيران والأصدقاء…
أما أنا فلا أخفيكم…. لقد ازددتُ غرورا وعُتوَاً كبيرا في ذلك اليوم …!!! فأنا سأذهب الى كلية الطب…أنا سأصبح طبيبا …أنا. أنا…..
المهم…..
بعد أسابيع قليلة كانت أختي قد أعدّت حقيبتي ووضعت فيها كل ما تستطيع وضعه من ثياب ومرطبانات مؤونة وشاي وسكر و معلّبات وسندويشات…واشياء لازمة وأشياء غير لازمة !!!
ولا أدري من أين حصلَتْ على بعض المال ودسّته في جيبي…وعندما مشينا
أنا كنت بالكاد استطيع حمل الحقيبة ولذلك كانت أختي تساعدني في حمل طرفها الآخر….
المهم سرنا الى محطة القطارات…
جلسنا على هذا المقعد الحجري…
القطار سينطلق بعد قليل …وأختي لا تزال جالسة معي ..ها هي تنظر في عينيّ وانا أنظر للقطار الذي بدأ يزمجر ويحرّك عضلاته….إنها تمسك بذراعي …تُوصيني وتشجّعني….ثم تعانقني وأنا صَنًمٌ جامدٌ خالٍ من المشاعر….
ركبتُ القطار وجلستُ قرب النافذة
نظرتُ اليها وهي تلوّح لي بيديها الصغيرتين…
نظرت اليها… لم أعرفها….نظرت اليها ثانية …. يا لقسوتي يبدو أنني لم أنظر في وجه أختي منذ زمن بعيد !!!
سار القطار بطيئا وهي لا تزال تهَرْولٌ قرب نافذتي وتلوّح مبتسمة كأنها طفلة صغيرة في يوم عيد…
…….
في الجامعة سارت الامور على غير ما توقعت …كان كل شيء صعبا…الأكل الشرب المواصلات …المحاضرات الطويلة…التعب الشديد …شيء لم أعتد عليه من قبل….
وعندما عدت في عطلةنهاية الاسبوع الاولى وجدتها في انتظاري…على هذا المقعد الحجري….آه….آه….
يومها فقط عانقتُها ورميتٌ رأسي على كتفها وبكيتُ…..بكيت …وشكوت لها ما أنا فيه….فضحكت ….وضحكت ثم قالت….
هذه أول مرة تعانقني فيها يا شقيّ …من أجل هذا العِناق يجب أن تستمر .. من أجل هذا العناق أبيع عمري !!!
قلت لها
سلامةُ عمركِ يا أختي يا حبيي بيي بتي. …
قلت لها ذلك من كل قلبي…يا حبيبتي
حمْلَتْ ، وهي تبتسم ، عني حقيبتي الفارغة ومشينا الى المنزل يداً بيدٍ…!!!
كان ذلك اليوم هو اليوم الاسعد في حياتي….وأصبحت أقول في نفسي…
يا ترى كيف يفعل الناس الذين ليس عندهم شقيقات ؟!!!
ومضينا ومضت الأيام على ذلك….
ففي كل اسبوع أعود وأجدها في انتظاري في محطة القطار على المقعد الحجري…ذاته… أعانقها ثم نمشي …. هي تحمل حقيبتي وأنا أتأبطها من كتفها النحيلة…او نمشي ويدُها الصغيرة في يدي ……نمشي الى ان نصل البيت فأجدها قد أعدّت من الطعام ما أحب وأشتهي….
وفي اليوم التالي انا احمل الحقيبة الثقيلة وهي تمشي بقربها تحاول رفع طرفها لمساعدتي….ولا تنسى ان توصيني بالجِد والاجتهاد هذا عدا عن سُبْحةِ الدُّعاء الطويلة التي تدعوها لي وهي ترفع يدها الثانية الى السماء….
الله يحفظكْ ويخليكْ…
الله ينجّحكْ ويقوّيك..
الله يرزقكْ ويُحَنّن عليك…
ثم تدعو ذلك الدعاء الغريب….
الله يأخذ من عمري ويعطيك…!!!
دُعاء غريب لم أتوقف عنده كثيرا….الى أن مضت خمس سنوات
وها انا ذا في نهاية السنة الخامسة من الطب…
أعود من الجامعة …أنزل من القطار …أنظر الى المقعد الحجري….كان المقعد الحجري خاليا…!!! وأختي لم تكن في انتظاري…..
ليست هذه عادتها….صحيح أنها في المرات الأخيرة كانت تبدو متعبة وشاحبة وناحلة كأنها عود ثقاب ولكنها لم تتخلّف يوما عن استقبالي …!!!
حملتُ حقيبتي الفارغة… بنفسي. .
هذه اول مرة منذ خمس سنوات أنا أحمل حقيبتي بنفسي….
ذهبت مسرعا الى البيت ….
لم يكن أحد هناك…
قال الجيران إنها في المشفى…
لا أدري كيف وصلتُ ….وكيف استطعت أن أراها…
كانت ترقد على سرير أبيض ….
قالوا لي إنها نائمة….
جلست قربها على السرير…
وضعت يدي في يدها….
شعرت أنها تشدّ على يدي..
ثم رأيتها تفتح عينيها قليلا وتنظر الي…وتقول…بصوت متقطّع….
بَقِيَ لي عندكَ عِناقٌ أخير …!!!
أنا فتحت ذراعيَّ وانحنيت نحوها…
هي رفعت ذراعيها
بضعف شديد……وتعانقنا…
ولكنْ ….ما لبث ذراعاها…
أنْ سَقَطا….على السرير
….بلا حراك… أختي !!!
………
د. جهاد السالم


(سماعة حكيم)



تعليق واحد

  1. جهاد السالم